«الطريقة الوحيدة المضمونة لتجنب إضاعة ركلة جزاء، هي عدم تسديد واحدة».
— الإيطالي روبيرتو باجيو
بالطبع، كان باجيو لاعباً عظيماً، يصنفه البعض كأفضل لاعب إيطالي على الإطلاق. لكن المثير أن اللقطة الأبرز في مسيرته كانت لقطة إهداره لركلة ترجيح في نهائي كأس العالم ضد البرازيل في 1994.
بشكل مثير، تتعاطف جماهير كرة القدم مع اللاعب الذي يهدر ركلة جزاء؛ ربما لأنه سيئ الحظ كفاية ليهدر ما قد يسجله طوال مسيرته في لحظة حاسمة، أو ربما لأن حارس المرمى لاعب هامشي، لا يكترث أحد لأمره.
فكما تقول العبارة المأثورة: «ما أتعس حارس المرمى، لا يتذكره أحد بعد المباراة، وحتى العشب يرفض أن ينمو في المكان الذي يقف فيه».
ولأن كرة القدم أهداف، أو بصيغة دارجة: إجوال، تكمن عبقرية كرة القدم كفكرة في بساطتها؛ إذ تبحث اللعبة دائماً عن أفضل نسخة لها، وتلك النسخة بلا شك ستكون النسخة التي تشهد تسجيل أكبر عدد ممكن من الأهداف.
في ظل البحث عن أفضل نسخة لكرة القدم، اقتحم الـ «VAR» المشهد سريعاً، طمعاً في تحقيق العدالة. وبغض النظر عن مدى تقبُّل الجماهير لتقنية حكم الفيديو المساعد، أثَّرت التقنية بشكل ملحوظ على قرارات الحكام، وأهمها القرارات المتعلقة بحالات التسلسل، وبكل تأكيد ركلات الجزاء.
في 2018، نشر موقع «The Economist» مقالاً اتضح من خلاله عدم تأثير تقنية حكم الفيديو المساعد على عدد ركلات الجزاء المحتسبة في مجموعة من الدوريات الكبرى؛ فأمام كل ركلة جزاء احتسبتها التقنية، أُلغيت ركلة جزاء غير صحيحة بفضل نفس التقنية.
لكن الرقم الواضح كان بعد انتهاء دور المجموعات بكأس العالم روسيا 2018، إذ احتسب الحكام 16 ركلة جزاء، وهو ضعف عدد ركلات الجزاء المحتسبة في نفس التوقيت بالنسخة السابقة في البرازيل. صدفة؟
في 2022، أي بعد 5 سنوات تقريباً من الاعتماد رسمياً على الفار، نشرت «ESPN» البريطانية تقريراً بعنوان: كيف غيَّرت تقنية الفار البريميرليج؟ طبقاً للإحصائيات، زاد عدد ضربات الجزاء الممنوحة للأندية خلال الفترة بين 2019 و2022 في الدوري الإنجليزي بشكل ملحوظ، في حين تراجعت في إسبانيا وإيطاليا. والأهم هو أن نسبة ركلات الجزاء التي يمنحها الفار ارتفعت في الدوريات الخمسة الكُبرى.
بالتالي، طبقاً لفرضيتنا الأصلية، تحققت المتعة، حيث معدَّل تهديفي أغزر، وتحققت العدالة عبر احتساب ما لم يكن ليُحتسب قبل الفار. صحيح؟
في نوفمبر 2023 نشرت جارديان البريطانية جزءاً من اجتماع هوارد ويب، رئيس «لجنة الحكام الإنجليزية - PGMOL»، خلال الاجتماع طالب ويب الحكام بضرورة التغاضي عن احتساب ركلات الجزاء الناعمة، حيث لا يجب أن يعتبر أي احتكاك داخل منطقة الجزاء بين المدافع والمهاجم مبرراً كافياً لاحتساب الخطأ.
يرى جون مولر، محلل ذي أثلتيك، بُعداً آخر لهذه الأزمة. في تقرير مفصل زعم مولر أن بعض ضربات الجزاء التي تحتسب تعد مكافأة سخيَّة للغاية، لجريمة لا تستحق هذا العقاب.
طبقاً للإحصائيات، معدَّل تحويل ضربات الجزاء في الدوري الإنجليزي الممتاز لأهداف حوالي 78%، ونصف هذه الركلات تلعب دوراً حاسماً في تحديد هوية الفائز باللقاء، وهذه نسب منطقية جداً، لكن حسب نموذج خاص من إعداد مولر، فنصف حالات الاستحواذ التي تنتهي باحتساب ركلة جزاء تكون في مناطق لا تتعدى فيها فرصة تسجيل المهاجم منها لهدف نسبة 6%، بل إن حالة استحواذ واحدة من كل 20 حالة تكون في مساحة يمكن أن يسجِّل منها المهاجم هدفاً بنسبة 19%.
بالطبع، في نهاية التقرير، تم اقتراح فكرة أخرى، أكثر عدالة في رأي البعض. حيث تكون ركلة الجزاء عبارة عن مواجهة بين اللاعب والحارس وبينهما 35 متراً، على أن يمنح المهاجم 5 ثوانٍ للتسديد. هكذا، قد تكون العقوبة أكثر منطقية.
لكن المفاجأة أن لا أحد يريد عقوبة منطقية، بل لحظة نفسية أكبر من الرياضة نفسها، مبارزة فردية من العصور الوسطى بين قوي وضعيف، لحظة تتطلب سيطرة وتركيز ورباطة جأش وبرود: لذلك ليس من المستغرب أن أول ركلة جزاء تم تنفيذها في أيرلندا الشمالية. وهذه هي قصتنا الأهم.
في أرما، على حدود جمهورية أيرلندا، كان ويليام مكروم، سليل الأسرة التي تمتلك مصنعاً للكتان، لا يرى نفسه سوى رياضي. كان مكروم، مُحباً للدراما والغناء ومدمناً للمراهنات.
في أواخر القرن الـ 19 كانت كرة القدم تسمح بالعنف، طبقاً لبعض المصادر، أدت بعض تدخلات المدافعين لوفاة بعض المنافسين. كان هذا ما شاهده ويليام مكروم بأم عينيه كحارس لمرمى فريق ميلفورد بأيرلندا الشمالية، وعزم على تغييره.
في 1890، أقنع ويليام «الاتحاد الأيرلندي - IFA» بما عرف لاحقاً بقانون ركلات الجزاء؛ إذ يعاقب المدافع في حال اعترض مهاجماً داخل منطقة الجزاء، ومن ثَم قام بعرض فكرته على «الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم – IFB».
المثير للسخرية، كان استهجان الإنجليز لفكرة مكروم، التي أطلقت عليها الصحافة فكرة الأيرلندي. والسبب، كما شرحه الكاتب ماكس دافيدسون في كتابه: «ليس الفوز وحده ما يهم»، إن مجرَّد التفكير في أن لاعباً سيعتزم الغش شيء يتعارض مع التفكير الفكتوري.
«ضربة الجزاء ما هي إلا إهانة للرياضيين، تضطرهم إلى اللعب طبقاً لقاعدة تفترض أنهم يعتزمون التعثُّر».
— تشارلز بيرجز فراي
كانت أوجه الاحتجاجات على العقوبة المستحدثة متعددة. حسب مقال نشره موقع متحف الهجرة الأيرلندي، اعترض اللاعبون على احتساب ركلات الجزاء برفض تسجيلها عمداً، أو ترك المرمى خالياً إذا ما تم احتساب ركلة جزاء ضدهم والوقوف على خط التماس.
كان تشارلز بيرجز فراي، لاعب فريق كورينثيانز، أهم من عارضوا فكرة تطبيق عقوبة ركلة الجزاء؛ لأنهم رأوا في ذلك استنقاصاً من قيمة اللاعبين؛ إذ تعني العقوبة نفسها اتهام المسئولين لهم بتعمدهم إصابة المنافسين، أو تأثير العقوبة نفسها على المهاجمين الذين سيلجئون لا محالة للغطس طمعاً في الحصول على المكافأة.
في النهاية، تحققت نبوءة فراي ودافيدسون، اعتزم اللاعبون الغش مراراً، ومنحت ركلات الجزاء لحظات الدراما للمشجعين، لكن الأهم أنها حتى وإن كانت ظالمة للحراس، خلَّدت سيرة ويليام مكروم، الذي فشل في إدارة شركة عائلته، وفشل كمقامر في ملاهي مونت كارلو الليلية، لكنه ظل بطلاً في رواية، تفترض أنه كحارس مرمى قد يتوسط دائرة الضوء إذا ما نجح وتصدى لركلة جزاء.